يمكن حصر صور الاختلاط المحرم في الصور الآتية:
أولاً: الاختلاط الذي هو مظنة للتزاحم وتماسّ الأجساد، فهو ظاهر المفسدة، ومظنة راجحة للفتنة، ولذا جاء النهي عنه في حديث أبي أسيد أنه سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال بالنساء في الطريق- يقول للنساء: " استأخرن، فليس لكُنّ أن تحققن الطريق - أي تذهبن في وسط الطريق -، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به". أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو تركنا هذا الباب - أي: باب من أبواب مسجده – للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح، قال الألباني: صحيح على شرط الشيخين.
ومما يدل على ذلك مباعدته - عليه الصلاة والسلام - بين صفوف الرجال والنساء في مسجده، مع قوله: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها - أي أقلها أجراً؛ إذ ليس في الاصطفاف للصلاة شر - وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم.
ولا نفهم معنىً لهذا إلاّ درْء الفتنة الناشئة من التزاحم وتماسّ الأجساد.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه شهد مع النبي - عليه الصلاة والسلام - العيد، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن...» رواه البخاري.
قال ابن حجر - فتح الباري 2/466-: «قوله (ثم أتى النساء) يشعر بأن النساء كنّ على حدة من الرجال غير مختلطات بهم».
ثانياً: الاختلاط الذي يصاحبه تبرّج وسفور وميل ومجون، ولا شك في حرمة هذا الاختلاط حتى وإن لم يكن فيه تزاحم وتماسّ للأجساد؛ لأن علة التحريم ليست في كونه اختلاطاً، وإنما في ما يحتف به من تبرج وسفور وإغراء.
ثالثاً: الاختلاط المنتظم المتكرر لأشخاص بأعيانهم؛ كالاختلاط الحاصل بين الطلاب والطالبات، وبين الموظفين والموظفات، فهذا هو الاختلاط الذي ترتفع فيه الحواجز بين الجنسين شيئاً فشيئاً، وتنشأ العلاقة بينهما مبتدئة بزمالة عفوية نزيهة ـ على حد زعمهم ـ فصداقة، فحب وغرام وهيام، فمثل هذا الاختلاط ظاهر المفسدة، مظنّةٌ للفتنة، ذريعة من ذرائع الفاحشة والسوء.
ويمكن الاستدلال لتحريم هذه الصورة بدليلين:
الأول: قاعدة سد الذرائع، والقاعدة في هذا أن كل ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، أو ما كان ظاهر المفسدة مفضياً في الغالب إلى الفتنة والشر فهو محرم في الشريعة.
نعم ليست المفسدة في هذا الاختلاط مطردة متحققة في جميع صوره؛ ولكن كون المفسدة لا تتحقق في بعض الصور لا ينقض حكم التحريم ولا يبطل القول بالمنع؛ لأن العبرة بغالب الحال، والحكم الشرعي أغلبي، أي أنه قد أُنيط بالأعم الأغلب، والواقع يشهد أن الواقعين في فتنة هذا النوع من الاختلاط كثيرٌ، واسألوا المبتلين بالعمل المختلط لينبِّئوكم بمفاسده، ولا ينبئك مثلُ خبير.
ثانياً: القياس الأولوي، وهو الاستدلال بالأدنى على ما هو أعـلى في العلة نفسها، فمن غير اللائق بالشـرع أن تُنهى المرأة عن أن تضربَ برجلها ليُعلم ما تخفي من زينتها، ثم يجيز هذا الضرب من الاختلاط الذي فيه من المفسدة والفتنة ما هو أعظم من ضرب المرأة برجلها.
ثم هل يصح في العقول أن يحرِّم الشرع الخلوة ولو لزمن يسير، ثم يبيح الاختلاط المنتظم، الذي هو ذريعة للخلوة المحرمة ومظنة لنشوء العلاقات الآثمة؟
إن مما ينبغي أن يُعلم في شأن هذه المسألة أنه لا يُشترط فيما حُرّم سداً للذريعة أن يكون مفسدةً في كل صوره وحالاته، بل يكفي أن يكون مظنة للمفسدة والفتنة، ولذا حرم الشرع الخلوة بشتى صورها، من غير تفريق بين خلوة يحصل فيها مسّ أو تقبيل أو نحو ذلك، وبين خلوة لا يحصل فيها شيء من ذلك؛ لأن الخلوة في نفسها مظنة للفتنة وذريعة للمفسدة، فكذلك يُقال في الاختلاط المنتظم المتكرر، الذي تغلب فيه المفسدة وتترجّح: إنه يحرم كله وإن انتفت المفسدة في بعض حالاته القليلة.
وبعد: فيبقى ما عدا ذلك من صور الاختلاط الذي لا تكون المفسدة فيه غالبةً يبقى على الأصل وهو الحل، ويدخل في هذا الاختلاط العفوي الحاصل في الأماكن العامة كالطرق والأسواق والمتنـزهات والمعارض التي لا يكون فيها تزاحم ولا تبرّج ولا سفور، فالاختلاط فيها جاء عفواً من غير قصد، وعليه عمل الأمة سلفاً وخلفاً. إن مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد والتقائهم فيه عفواً لم يكن في أصله ممنوعاً في الشريعة بإطلاق، ولا موجباً للإثم بمجرده، كيف وقد اجتمع الرجال والنساء على عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - في مسجده، وفي غيره، وكان النساء يخرجن إلى الأسواق وفيها الرجال، ويمشين في الطرقات مع سائر الناس، وهذا بمجرده ليس مدعاةْ للفتنة، ولا ذريعة للفاحشة، ما لم تشبه شائبة أخرى من تبرّج أو سفور ونحو ذلك، ومن التشديد بمكان أن يدرج هذا في صورة الاختلاط المحرم ولم تتحقق فيه علته، ولا نحسب هذا إلاّ من المبالغة في سدّ الذرائع، بل والقول به لا يصلح به معاش، مع ما يجلبه من المشقة والتعسير على الناس